تعلن وزارة الصحة العامة عن أسماء المستشفيات التي اجتازت بنجاح التقييم على اساس الاعتماد الذي قام به فريق من الخبراء المتخصصين. وحتى تأتي هذه النتائج في موقعها الصحيح من حيث المغزى والأهداف لا بد من توضيح ما يلي:
أولاً:ان اعتماد المستشفيات Accreditation هو واحد من المشاريع المعتمدة في الدول المتقدمة لضمان جودة الخدمات الاستشفائية. فضمان الجودة يشكل الغاية الوحيدة لمشروع الاعتماد.ومن المعروف دولياً ان المؤسسات المعنية أكانت مستشفيات، أم مختبرات أم مراكز تصوير طبي أم غيرها هي التي تقوم بعملية الإعتماد كونها المستفيد الأول منه. إلاَّ ان المؤسسات الخاصة التي تشكل معظم القطاع الإستشفائي في لبنان لم تبادر الى القيام بهذا المشروع. وبما ان ضمان الجودة ينعكس مباشرة على صحة المواطنين، اخذت وزارة الصحة العامة على عاتقها في المرحلة الراهنة هذه المسؤولية. وذلك بعد ان تبين لنا بأن القطاع الإستشفائي يملك قدرات مادية وبشرية هائلة وبأن نوعية الخدمات لا تتناسب أبداً مع هذه القدرات. وهذا ما برهنته تجربة الاعتماد، بحيث يفيد الخبراء بأن الخدمات الإستشفائية حققت قفزة نوعية هائلة بفترة وجيزة لا تتعدى خمس سنوات، وان هذا التطور السريع ما كان ممكناً لو لم تكن هذه المؤسسات تمتلك من الأساس المقومات اللازمة لذلك. وهذا يؤكد حقيقة عدم الاستعمال الرشيد لموارد المستشفيات والتراخي الذي كانت تعانيه هذه المؤسسات في السابق. واذا كانت الوزارة قد اخذت زمام المبادرة فذلك لا يعني بأنها ستستمر الى أجل غير مسمى بالقيام بعملية الاعتماد وتحمل تكاليفها، بل انها هدفت الى اعطاء دفعة قوية بهذا الاتجاه بانتظار ان تقوم المؤسسات المعنية بالمتابعة. وعندما ترى هذه المؤسسات نفسها قادرة على استكمال هذا المشروع سوف ترحب الوزارة بذلك وتكتفي بمراقبة حسن التنفيذ.
ثانياً:يستند التقييم الى معايير محددة وواضحة ومعلنة تصدر بمرسوم عن مجلس الوزراء. يجب تطوير هذه المعايير ورفع مستواها بما يؤدي الى تحسن مستمر للقطاع الاستشفائي. ولقد تم المسح الأخير للمستشفيات بناءً على معايير وأسس صدرت بالمرسوم رقم 14263 تاريخ 04/03/2005 (الجريدة الرسمية عدد 12 تاريخ 22/03/2005). ولا بد من التأكيد على الشفافية في صياغة هذه المعايير بحيث اعدها خبراء متخصصون بعد التشاور مع المؤسسات المعنية، وقد شارك في صياغتها النقابات والجامعات والجهات الضامنة وعدة اختصاصيين في هذا القطاع. وبعد الصياغة الأولية وردتنا ملاحظات خطية من عدة جهات عمدنا الى ادراجها حتى توصلنا الى توافق وطني بشأنها قبل اصدارها بمرسوم.
ثالثاً:لقد بادرت نقابة المستشفيات قبل اجراء المسح الى تنظيم دورات تدريبية للمستشفيات بغية مساعدتها على استيفاء الشروط المطلوبة. كما قامت بعض المستشفيات، بمبادرة منها، بالتعاقد مع اختصاصيين لتطوير مختلف الأقسام لديها لكي تتناسب مع المعايير المعتمدة. وهذا امر نرحب به ونشجعه لأن هدف المشروع أساساً هو تطوير خدمات المستشفيات وضمان جودتها.
رابعاً:بما ان ضمان الجودة هو مشروع مستمر ويتطلب جهوداً متواصلة، فما من شك بأن عامل الوقت هو أساسي لاجتياز التقييم بنجاح. ولكنه من البديهي ايضاً ان تبدأ عملية المسح وتنتهي بتاريخين محددين. لذلك عمدت الوزارة وبحضور نقيب المستشفيات الى سحب الأسماء بالقرعة لتحديد تراتبية الزيارات وفق جدول زمني محدد. ومن الطبيعي ان يكون قد لحق بعض الظلم المستشفيات التي خضعت للتقييم في بداية المسح مقارنة مع تلك التي قُيّمت في نهايته، اي بعد سنة، مستفيدة بذلك من فترة أطول للتحضير. ولم يكن لدينا من خيار سوى اعتماد شفافية مطلقة في صياغة جدول الزيارات بالطريقة التي تمت بها.
خامساً:يقضي التقييم بوضع علامة وفقاً لاستيفاء شروط كل واحد من المعايير. يحدد مجموع العلامات لكل قسم مستوى نجاحه. كما ان مجموع علامات الأقسام تحدد مستوى نجاح المستشفى. الهدف من ذلك هو انساب المستشفى الى فئة من الفئات الثلاث التي ترتبط بها تعرفة الخدمات الاستشفائية. وهذه التعرفة تأخذ بالاعتبار إضافة الى جودة الخدمات مستوى التعقيدات التقنية في المستشفى. لذلك يجب ان لا تعطى العلامة(Score ) اي تفسير خارج هذا الإطار، وبالتالي لا أهمية مطلقاً لتسلسل الأسماء في اللوائح المعلنة. فضلاً عن أن العلامات، وكما هو معمول به عالمياً، تحفظ لدى لجنة التقييم ولاتعلن.
سادساً:عند ابلاغ النتائج حصل كل مستشفى على ملف أعده الاستشاريون يبيَن مستوى كل قسم من الأقسام الادارية والمالية والطبية والتمريضية والتقنية والفندقية. كما يحوي الملف على ارشادات حول مكامن الخلل والنواقص بغية تحسينها. فكل ذلك يصب في الهدف الأساسي للمشروع المتعلق برفع مستوى جودة الخدمات الاستشفائية.
سابعاً:لقد تم اخضاع بعض المستشفيات الحكومية لهذا التقييم مع علم الوزارة المسبق بعدم استعداد معظم هذه المؤسسات، التي تمتعت حديثاً باستقلالية ادارية ومالية، لاجتياز هذا الامتحان بنجاح. وكان الهدف من ذلك تمرين المستشفيات على كيفية اجراء المسح الذي ستخضع له جميعها بعد سنة، يتم خلالها تدريب العاملين فيها على احترام المعايير واستيفاء الشروط. وبذلك تأكيد إضافي على ان نتائج الاعتماد تعتبر فقط مهمة بقدر ما تعطيه من حوافز وارشادات لتحسين اوضاع المستشفيات.
ثامناً:لا علاقة مباشرة للإعتماد بالحد من تضخم عدد الأسرة الإستشفائية في لبنان. إلاّ ان المستشفيات التي لم تنجح بالتقييم مدعوة إلى إعادة النظر بإستراتيجيتها وبإستمرارية عملها بالشكل الذي تعودته. فبعض هذه المستشفيات يستطيع بدون شك تحسين وضعه وإجتياز التقييم المقبل بنجاح، وبعضها الآخر قد لايملك الحد الأدنى من المقومات لذلك؛ فالخيار صعب ويعود لإدارة المستشفى. وهنا لابد من التذكير بأن معالجة الحالات الحادة Acute Care ليست المجال الوحيد لعمل المؤسسة الصحية وبأنه يوجد مجالات أخرى هامة جداً للقطاع الصحي تتطلب مهارات وتقنيات أقل.
تاسعاً: إن ما يثار عن عدم جواز تطبيق المعايير المعتمدة على المستشفيات المتخصصة أو على مستشفيات اليوم الواحد يستوجب التوضيح وإعادة النظر بالمفاهيم. إن تخصص بعض المستشفيات بمجالات محددة تكون عادة جراحية، هو امر محبذّ كون نوعية الخدمة ترتبط بالمهارات التي تعكس خبرة الفريق المرتبطة بدورها بعدد التدخلات العلاجية التي يقوم بها. ومن المعلوم ان الكلفة تتعلق ايضاً بحجم العمل. إلاّ ان هذه التخصصات تستوجب حداً ادنى من البنى التحتية والكفاءات المساندة المتعددة الإختصاصات وما يرافقها من تدابير تنظيمية، مما يستوجب إستيفاء معايير تؤهل المستشفى ليكون على الأقل في الفئة الأدنى من فئات الإعتماد. وبالتالي لا يمكن لمستشفى لم يستوفِ الحد الأدنى للإعتماد ان يكون قادراً على تقديم خدمات متخصصة بالمستوى المطلوب. اما المشكلة التي تبقى عالقة تكمن في إستحالة المستشفى المتخصص ان يصل إلى معدلات تضعه في الفئة الأولى مما يلحق اجحافاً بحقه خاصة وان فئة الإعتماد مرتبطة حالياً بالتعرفة. اما بالنسبة لإستشفاء اليوم الواحد فهو غالباً ما يتطلب مهارات وتقنيات تفوق الإستشفاء التقليدي، ونحن نشجع المستشفيات على السير بهذا الإتجاه لما له من تأثير إيجابي على نوعية الخدمة أولاً وكلفة العلاج ثانياً. ولكن يجب التخلي عن المفهوم الخاطئ بأنه يمكن إستئجار شقة وتحويلها إلى مستشفى نهاري بإمكانيات متواضعة والمطالبة بصياغة معايير خاصة تقل شأناً عن المعايير المعتمدة.
وأخيراً يبقى ان نعترف بأن المعايير المعتمدة هي غير مناسبة لبعض المستشفيات التي اتخذت لنفسها غاية محددة كالصحة العقلية أوالتأهيل. لذلك قررت الوزارة صياغة معايير خاصة لثلاث فئات: الصحة العقلية Mental Health ، الإقامة الطويلة والتأهيل Long Stay & Rehabilitation ، رعاية الأم والولد Mother and Child Care . أما الهدف من ذلك فلا يقتصر على إعطاء هذه المؤسسات حقها، بل أيضاً على تشجيع التحول بهذه الإتجاهات. ولكن يجب التحذير مرة أخرى من المفاهيم الخاطئة؛ فمفهوم الصحة العقلية يختلف عن إستشفاء الحالات العصبية النفسية الحادة Neuro Psychiatrie ورعاية الأم والولد لا تشمل الجراحات النسائية المعقدة التي تمارسها الأقسام المتخصصة في المستشفيات، وكذلك الإقامة الطويلة لايقصد بها ايواء العجزة؛ فالأولى تتعلق بخدمات طبية لفترة محددة وان كانت طويلة، بينما الثانية تؤدي دوراً إجتماعياً، هاماً بدون شك، ولكن يخرج عن نطاق وزارة الصحة العامة.
عاشراً: وبالعودة إلى علاقة التعرفة بالتقييم، فيجب ان ينظر اليها من ناحية التطور التاريخي لتغطية تكاليف الإستشفاء في لبنان. لقد اعتمد نظام التمويل تقليدياً تعرفات مختلفة للمستشفيات وفقاً لتصنيفها، بهدف خلق حوافز مادية لرفع مستوى الخدمات الإستشفائية. إلاّ ان هذه الحوافز ساهمت في إستفاضة العرض Over Supply للتقنيات المتطورة. وكان الهدف من معايير الإعتماد مراجعة هذه الحوافز بحيث لم يعد مهماً اقتناء التجهيزات الحديثة بحد ذاته، بقدر أهمية حسن استعمال هذه التجهيزات ومساهمتها، ضمن هيكلية تنظيمية متكاملة، لإنتاج خدمة مضمونة الجودة. وبالتالي لايمكن عزل التقنيات والأقسام الطبية أو الإدارية أو الخدماتية المساندة عن بعضها ويجب النظر اليها بشمولية. مثالاً على ذلك جودة خدمات العناية الفائقة التي ترتبط مباشرة بعدة اقسام كالعناية الطبية والتمريضية ونوعية الفحوصات المخبرية والشعاعية والتعقيم ومكافحة الإلتهابات المكتسبة وغيرها. وبالتالي اذا كان لابد من ربط التعرفة بالإعتماد فلا يجوز ان تحدد بناءً على مستوى وحدة العناية الفائقة بمفردها كما كان معمولاً به بالنظام السابق، بل يجب ان يؤخذ بالإعتبار المستوى العام لأداء المؤسسة. لذلك اتت التعرفات على الشكل المحدد بقرار الوزير وفقاً للفئة التي ينسب اليها المستشفى ككل. ولكن لابد من الإعتراف بأن هذه التعرفات هي تقريبية، هدفت إلى الإنتقال من مرحلة التصنيف إلى مرحلة الإعتماد، ولاتوجد حالياً المعطيات الكافية لتحديد تعرفات تعكس بدقة الكلفة الحقيقية. ناهيك عن الجدل النظري الجدّي حول ملاءمة ربط التعرفة بالإعتماد الذي يهدف بالدرجة الأولى إلى ضمان الجودة، مما يستوجب برأينا إعادة نظر جذرية بهذه السياسة مستقبلاً.
نرجو ان تكون هذه الإيضاحات قد ساهمت بإعادة الأمور إلى نصابها وبالإجابة عن التساؤلات التي أثارها إعلان نتائج المسح الأخير. إننا نتفهم الضجة المثارة حول موضوع الإعتماد وردة فعل المستشفيات، التي قد تكون تفاجأت بالنتيجة، وننظر إلى ذلك بإيجابية كونه ينم عن إهتمام كبير بهذا المشروع من قبل المعنيين. وهنا لا بد من التأكيد بأن رغبة وزارة الصحة هي بنجاح الجميع لا بل باحتلالهم جميعاً المرتبة الأعلى. وذلك ممكن للكثيرين اذا وجدت النية وبذلت الجهود اللازمة، الاّ انه لا يتحقق بفترة زمنية قصيرة. ان تاريخ معظم المؤسسات الاستشفائية يعود الى عقود من الزمن وامامها مستقبل طويل، فإذا حصلت في مرحلة ما على تقييم ادنى مما تتوخاه، فهذه المرحلة القصيرة التي تقاس بالأشهر لن يكون لها اثر يذكر على سمعتها التي اكتسبتها خلال تاريخها العريق والتي يمكنها تثبيتها في المستقبل القريب ولسنوات طويلة. لذلك المهم الخروج من ردات الفعل والعودة إلى إستكمال النواقص والعمل الجدي على إستيفاء معايير الإعتماد: هذا هو السبيل الوحيد للحصول على نتيجة أفضل في المسح المقبل.
وأخيراً نهنئ المستشفيات على تعاطيها الإيجابي وبذلها الجهود المتواصلة لرفع مستوى الخدمات الإستشفائية في لبنان والتي أدت إلى نتائج ملحوظة على الأرض. وهذا عمل مقدر من داخل الوطن وخارجه سيؤتي بدون شك ثماره ويعود بالفائدة الأكيدة على الجميع.